الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وتوفي القاضي جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي المالكي القبطي بطالًا بدمشق في هذه السنة عن سن عال بعد أن ولي نظر جيش طرابلس وكتابة سر مصر في بعض الأحيان بعد موت علم الدين داود بن الكويز ثم عزل عنها لعدم أهليته. وولي عدة وظائف بالبلاد الشامية إلى أن كبر سنه وعجز عن المباشرة فتعطل إلى أن مات. وقد قدمنا من ذكره نبذة عند ولايته كتابة السر بمصر في ترجمة الملك الأشرف برسباي فلينظر هناك. وفرغت هذه السنة والملك الظاهر جقمق مريض مرضه الذي مات منه بعد خلعه في صفر حسبما تقدم ذكره رحمه الله تعالى وتسلطن ولده الملك المنصور عثمان في حياته.
: الماء القديم خمسة أذرع وأربعة وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا واثنا عشر إصبعًا.
السلطان الملك المنصور أبو السعادات فخر الدين عثمان ابن السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبي سعيد جقمق العلائي الظاهري وهو الخامس والثلاثون من ملوك مصر إلاتراك والحادي عشر من الجراكسة. تسلطن بعد أن خلع أبوه الملك الظاهر جقمق نفسه عن الملك وحضر الخليفة القائم بأمر الله حمزة والقضاة الأربعة وجميع الأمراء وأعيان الدولة بقاعة الدهيشة من قلعة الجبل وبايعوه بالسلطنة في الثانية من نهار الخميس الحادي والعشرين من محرم سنة سبع وخمسين وثمانمائة وكانت البيعة له بالسلطنة في الثانية من نهار الخميس بعد طلوع الشمس بخمس وعشرين درجة ولبس الخلعة على العادة وركب من الدهيشة وعليه السواد الخليفتي بشعار الملك وأبهة السلطنة على نحو ثلاثين درجة من طلوع الشمس. وسار وبين يديه الأمراء وأعيان المملكة إلى أن نزل بالقصر السلطاني وحمل الأمير الكبير إينال العلائي الناصري القبة والطير على رأسه إلى أن جلس على تخت الملك وقبل الأمراء الأرض بين يديه وخلع على الخليفة القائم بأمر الله حمزة وعلى الأمير الكبير إينال المذكور على كل منهما أطلسين متمر وفرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش وأنعم على الخليفة بألف دينار وبإقطاع هائل زيادة على ما بيده. وتم أمره في السلطنة ولقب بالملك المنصور وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا. وكان الطالع عند بيعته بالسلطنة سبعًا وعشرين درجة من برج الحوت والغارب برج السنبلة والمتوسط برج القوس والساعة ساعة المريخ والقمر بالوجه الثالث من برج العقرب. واستمر الملك المنصور بالقصر السلطاني ساعة ثم عاد إلى منزله بالحوش السلطاني من قلعة الجبل وهذا بخلاف عادة الملوك لأن العادة جرت أن السلطان إذا تسلطن يمكث بالقصر ثلاثة أيام بلياليها وعنده أعيان الأمراء والخاصكية فأبطل ذلك كله الملك المنصور وعاد من يومه لكون والده على خطة وهو حاضر الحس وفعل ذلك مراعاة لخاطره. ثم في يوم السبت ثالث عشرين المحرم جلس الملك المنصور على الدكة بالحوش السلطاني وحضر الأمير دولات باي المحمودي الدوادار الكبير أمير حاج المحمل إلى بين يديه وقبل الأرض وخلع عليه ونزل إلى داره. ثم أصبح يوم الأحد طلع المقام الغرسي خليل ابن السلطان الملك الناصر فرج إلى القلعة وقد حضر أيضًا من الحج وسلم على الملك المنصور فأقبل عليه المنصور وخلع عليه كاملية صوف بنفسجي بمقلب بفروسمور ثم خرج من عنده ودخل إلى الملك الظاهر جقمق وعاده وسلم عليه بقاعة الدهيشة وقبل أن ينزل رسم له الملك المنصور بالتوجه من يومه إلى ثغر دمياط. وكان الملك الظاهر جقمق لما استقدمه من الإسكندرية للحج أطمعه بالسكنى في القاهرة فنزل خليل المذكور إلى تربة جده الملك الظاهر برقوق بالصحراء وسافر منها ليلته إلى دمياط. ثم في يوم الاثنين خامس عشرين المحرم أنعم السلطان الملك المنصور بإقطاعه الذي كان بيده أيام أبيه على الأمير تنم من عبد الرزاق أمير مجلس. وأنعم بإقطاع تنم وهو أيضًا تقدمة ألف على الأمير يونس إلاقبائي شاد الشراب خاناه. وأنعم بإقطاع يونس على الأمير جانبك القرماني الظاهري برقوق ثاني رأس نوبة وإلاقطاع إمرة أربعين طبلخاناه. وأنعم بإقطاع جانبك القرماني على الأمير يشبك الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وهو أيضًا إمرة أربعين. وأنعم بإقطاع يشبك الناصري وهو إمرة عشرة على الأمير كزل السودوني المعلم وكان بطالًا. ثم في يوم الثلاثاء سادس عشرينه حضر الملك المنصور خدمة القصر على العادة قديمًا لأن والده الملك الظاهر كان أبطل خدمتي السبت والثلاثاء من القصر. وخلع على الأمير لاجين الظاهري الزردكاش ولإلاة الملك المنصور باستقراره شاد الشراب خاناه عوضًا عن يونس المقدم ذكره. وخلع على جانبك قرا الظاهري جقمق أحد أمراء العشرات ورأس نوبة باستقرارة زردكاشًا عوضًا عن لاجين المذكور. ثم توجه الملك المنصور من القصر إلى البحرة بالحوش السلطاني وطلب به مباشري الدولة وحضر الأمير قاني باي الجاركسي الأمير آخور الكبير والطواشي فيروز الرومي النوروزي الزمام والخازندار وكلمهم في أمر المماليك السلطانية ومن أين تكون النفقة عليهم لأن الملك الظاهر لم يدع في الخزائن شيئًا وطال جلوسهم عنده إلى قريب الظهر وانفض المجلس بعد كلام طويل. واختلفت إلاقوال فيما وقع فيه من الكلام ومحصول ذلك كله أن السلطان شكا للجماعة قلة وجود المال بالخزانة السلطانية وسألهم في المساعدة في أمر النفقة فدار الكلام بينهم في ذلك إلى أن التزم كل منهم بحمل شيء مساعدة له في نفقة المماليك وانفض المجلس بعد أمور حكيناها في الحوادث. ثم في يوم الخميس ثامن عشرين المحرم خلع السلطان على الأمير جانبك الظاهري بالتكلم على بندر جدة على عادته في كل سنة وخلع على عدة من الخاصكية بالتوجه إلى البلاد الشامية بالبشارة بسلطنة الملك المنصور عثمان وهم: جانم الأشرفي الساقي البهلوان توجه إلى نائب الشام الأمير جلبان. وطوخ النوروزي رأس نوبة الجمدارية إلى نائب حلب الأمير قاني باي الحمزاوي. وبرسباي الأشرفي الأمير آخور إلى نائب طرابلس الأمير يشبك النوروزي. وقايتباي الأشرفي الأمير آخور إلى نائب حماة الأمير حاج إينال اليشبكى. ودولات باي إلى نائب صفد الأمير بيغوت الأعرج المؤيدي. وتمر الأشرفي الخاصكي إلى نائب قلعة دمشق وقضاتها وغيرهم. وسودون يكرك إلى نائب غزة جانبك التاجي. وخشقدم مملوك قراجا الأشرفي إلى نائب الكرك والقدس. وإينال الظاهري جقمق إلى نائب الإسكندرية برسباي البجاسي. ثم في يوم السبت سلخ المحرم أعاد السلطان الجمع بقاعة البحرة من قلعة الجبل بسبب نفقة المماليك السلطانية وأعاد على مباشري الدولة الكلام في أمر النفقة فكثر الكلام بسبب ذلك. وكان زين الدين يحيى الأستادار قد تقرب إلى الملك المنصور أيام والده وصار أستاداره. واختص به ومهد أموره معه فلما تسلطن ظن أنه سيكون من أمره في دولته أضعاف ما كان له في دولة والده الملك الظاهر جقمق وأخذ في هذا الجمع يمتنع من حمل ما قرر عليه من الذهب برسم نفقة المماليك وأنه في حمله بوظيفة الأستادارية وأوسع وصمم على مقالته. وكان في المجلس الأمير جانبك الظاهري نائب جدة والناصري محمد بن أبي الفرج نقيب الجيش وهو أعدى عدو لزين الدين الأستادار مع من حواه المجلس من الأمراء وأعيان المملكة. وكثر الكلام بسبب امتناع زين الدين من حمل المال وتغير السلطان عليه بسبب ذلك فأمر بمسكه وعزله وتولية الأمير جانبك الظاهري نائب جدة للأستادارية وأحضر في الحال خلعة الأستادارية وألبسها للأمير جانبك المذكور ونزل إلى داره وبين يديه وجوه الدولة. وسر الناس قاطبة بعزل زين الدين المذكور عن الأستادارية فإنه كان طال واستطال وظلم وعسف وأخذ عدة إقطاعأت من أخباز المماليك السلطانية والأمراء استولى عليها بالشوكة وأضافها إلى الديوان المفرد وحجر على غالب الأشياء واستولى عليها من معايش الفقراء وأرباب التكسب وصار هو يأخذها ثم يبيعها بأضعاف ما أخذها حتى جمع من هذا المال الخبيث أموإلا كثيرة وعمر منها الجوامع والمساجد والسبل فكان حاله في ذلك كقول القائل: الطويل بنى جامعًا لله من غيرماله فكان بحمد الله غير موفق كمطعمة إلايتام من كد فرجها لك الويل لاتزني ولاتتصدقي وقد حررنا أحواله من ابتداء أمره إلى يوم عزله في غير هذا المحل والمقصود هنا الآن أخبار الملك المنصور ثم رسم الملك المنصور بحبس زين الدين وإلزامه بخمسمائة ألف دينار والحوطة على جميع موجوده وحواشيه. ثم أنعم الملك المنصور على الأمير بردبك الظاهري جقمق البجمقدار أحد أمراء الخمسات بإمرة عشرة من الديوان السلطاني وأنعم بإقطاع بردبك على سودون من سلطان الظاهري البجمقدار حسابًا عن إمرة عشرة ضعيفة وأنعم على جانبك القجمادىي الأشرفي المعروف بدوادار سيدي بإمرة عشرة أيضًا من الذخيرة من المتوفر. وفي عصر هذا النهار سلم السلطان زين الدين يحيى الأستادار المنفصل إلى الأمير جانبك الظاهري الأستادار المستقر في الأستادارية وأ مره بمعاقبته فنزل به من القلعة على أقبح وجه فنعوذ بالله من زوال النعم " وازدحم الناس تحت القلعة لرؤيته فما منهم إلا شامت أو متهكم فتفضل عليه الأمير جانبك وتنزه عن عقوبته رحمة عليه لا خوفًا من عاقبته وأعاده إلى القلعة في يوم الأربعاء وقد حررنا ذلك كله في الحوادث. ثم في يوم الاثنين ثاني صفر خلع السلطان على الأمير فيروز النوروزي الزمام الخازندار بإعادة الذخيرة إليه. وخلع على الأمير قشتم الناصري باستقراره في نيابة البحيرة على عادته أولا على كره منه وهو أيضًا أحد أعداء زين الدين الأستادار. وكان قشتم من محاسن الدهر. وفيه أنعم الملك المنصور على السيفي قانصوه المحمدي الساقي الأشرفي بإمرة عشرة من الذخيرة أيضًا وقانصوه أيضًا من نوادر الدهر ومحاسنه. ومات السلطان الملك الظاهر جقمق في تلك الليلة حسبما ذكرناه في خمسة مواطن من مصنفاتنا لا حاجة في ذكره هنا ثانيًا. ثم في يوم الأربعاء ثاني يوم دفن الملك الظاهر جقمق نودي بالقاهرة بالأمان والنفقة في المماليك السلطانية في آخر صفر. وفيه نقل زين الدين الأستادار من بيت الأمير جانبك إلى طبقة الخازندار فيروز بالقلعة على أن يحمل ما قرر عليه. وفيه خلع السلطان على جانبك الأشرفي اليشبكي والي القاهرة وعلى يرعلي محتسب القاهرة وعلى الناصري محمد بن أبي الفرج نقيب الجيوش المنصورة باستمرارهم على وظائفهم. وخلع على الأمير قراجا العمري الناصري باستقراره كاشف الشرقية بالوجه البحري بعد عزل عبد الله عنها فتزايد سرور الناس بعزل هذا الظالم أيضًا. ثم في هذا اليوم عوقب زين الدين الأستادار بالعصي والمعاصير وضرب على سائر أعضائه وحضر الناصري محمد بن أبي الفرج عقوبته وكان السلطان ألزمه باستخراج الخمسمائة ألف دينار منه. ثم في يوم الثلاثاء عاشر صفر استقر الزيني فرج بن النحال كاتب المماليك في نظر الدولة وخلع السلطان على تنم الخاصكي الظاهري المعروف برصاص باستقراره في التكلم على بندر جدة عوضًا عن الأمير جانبك الظاهري الأستادار بسفارة جانبك. ثم في يوم الخميس ثاني عشر صفر أمسك السلطان الملك المنصور برأي مماليك أبيه جماعة من الأمراء المؤيدية وهم: الأمير دولات باي المحمودي المؤيدي الدوادار الكبير والأمير يرشباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء الطبلخانات وأمير آخور ثان والأمير يلباي الإينالي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة وكان القبض على دولات باي بقاعة الدهيشة وعلى يرشباي بالإسطبل السلطاني وعلى يلباي من سوق الخيل وقيدوا الجميع إلى بعد أذان الظهر فانزلوا بالقيود على البغال إلى النيل وحملوا إلى الإسكندرية فسجنوا بها. وكان مسفر دولات باي الأمير جانبك قرا الذي استقر زردكاشًا وقد تولى نيابة الإسكندرية في الباطن عوضًا عن برسباي البجاسي وحمل إليه التقليد بعد يومين فاتضع بمسك هؤلاء قدر المؤيدية وارتفع أمر الأشرفية. ثم في يوم الاثنين سادس عشر صفر أنعم السلطان على الأمير قرقماس الأشرفي الجلب أحد أمراء الطبلخانات وقريب الأشرف برسباي بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية عوضًا عن دولات باي المحمودي بحكم حبسه وأنعم بإمرة قرقماس المذكور على الأمير جانبك النوروزي المعروف بنائب بعلبك والقادم من مكة قبل تاريخه. وفيه استقر الأمير تمربغا الظاهري الدوادار الثاني وأحد أمراء العشرات دوادارًا كبيرًا عوضًا عن دولات باي وأنعم عليه بإمرة أربعين وهو إقطاع يرشباي الإينالي وأنعم بإقطاعه على يشبك الظاهري بعد أيام. وفيه أيضًا استقر الأمير أسنباي الجمالي الظاهري أحد أمراء العشرات دوادارًا ثانيًا عوضًا عن تمربغا على إقطاعه إمرة عشرة من غير زيادة. واستقر الأمير سنقر العايق الأمير آخور الثالث أمير آخور ثانيًا عوضًا عن يرشباي. واستقر الأمير بردبك البجمقدار أمير آخور ثالثًا عوضًا عن سنقر المذكور. واستقر الأمير جانبك اليشبكي والي القاهرة زردكاشًا عوضًا عن جانبك قرا المتوجه إلى نيابة الإسكندرية مضافًا إلى ما بيده من الولاية والحجوبية وشد الدواوين. فعظم ما وقع في هذا اليوم من الولاية والتغاير على أعيان الأمراء ونفرت القلوب من الظاهرية في الباطن بسبب تولية تمربغا الدوادارية الكبرى وكان الأمير أسنبغا الطياري رأس نوبة النوب رشح لولايتها وأن يكون الأمير جرباش المحمدي كرد رأس نوبة النوب عوضه. وبات الناس على ذلك فأصبح وقع ما حكيناه ومن يومئذ وقع الكلام في الدولة ووجد من له غرض في إثارة الفتنة مدخلًا يدخل منه وترقب الناس وقوع الفتنة غير أن الناس في سكون والبواطن مشغولة إلى ما سيأتي ذكره. ثم في يوم الثلاثاء سابع عشره أنعم السلطان على الأمير سونجبغا اليونسي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بإقطاع الأمير يلباي الإينالي بحكم حبسه بالإسكندرية وأنعم بإقطاع سونجبغا المذكورة وإقطاع جانبك النوروزي نائب بعلبك على قاني بك السيفي يشبك بن أزدمر أحد الدوادارية وعلى قوزي الظاهري الساقي واستقر سنطباي الظاهري ساقيًا عوضًا عن قوزي وخير بك الأشرفي صاحب تمراز المصارع دوادارًا عوضًا عن قاني بك. وفيه أيضًا عوقب زين الدين أشد عقوبة بحضرة الأمير جانبك الظاهري الأستادار وغيره وهو لا يظهر ماله من الذخائر غير ما أخذ له وهو دون المائة ألف دينار ذكرنا تفصيلها في غير هذا المحل. وفي هذه الأيام أشيع بوقوع فتنة ووثوب المماليك السلطانية بسبب النفقة عليهم. وفيه استعفى الأمير الوزير تغري بردي القلاوي الظاهري من الوزر فأعفي على أنه يقوم بالكلف السلطانية في يومه ومن الغد. ثم في يوم الأربعاء ثامن عشر صفر عقد مجلس بين يدي السلطان بالقضاة الأربعة بسبب أملاك زبن الدين الأستادار الموقوفة عليه وعلى جوامعه ومساجده وقع بسبب ذلك أمور آل الأمر إلى بيعها. ثم في يوم الخميس تاسع عشره خلع السلطان على الصاحب أمين الدين بن الهيصم باستقراره وزيرًا على عادته. قلت: إذا أعطي القوس لراميه. ثم في يوم السبت حادي عشرينه عمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني بسبب قصاد ملك الحبشة. وكان أشاع أهل الفتن في أمسه أن السلطان يريد يعمل الخدمة بالحوش ليقبض على جماعة كبيرة من الأعيان فانفض الموكب ولم يقع شيء من ذلك. ثم في يوم الاثنين ثالث عشرين صفر المذكور رسم السلطان للأمير جرباش الكريمي الظاهري برقوق أمير سلاح بلزوم بيته بحكم كبر سنه وعجزه عن الحركة. وكان جرباش من القبائح. وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير قراجا الظاهري جقمق الخازندار وصار من جملة أمراء الألوف وقراجا المذكور من خيار أبناء جنسه دينًا وعفةً وكرمًا. وأنعم بإقطاع قراجا ووظيفته على الأمير أزبك من ططخ الظاهري جقمق الساقي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وأنعم بإقطاع أزبك على الأمير بتخاص العثماني الظاهري برقوق وكان بطالًا. وفيه أيضًا استقر الأمير تنم من عبد الرزاق المؤيدي أمير مجلس أمير سلاح عوضًا عن جرباش الكريمي قاشق بحكم لزومه داره. وفيه خلع السلطان على الأمير تمربغا الظاهري الداوادار الكبير خلعة الآنظار المتعلقة بالدوادارية ونزل بخلعته في موكب جليل ولسان حاله ينشد: البسيط من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور ثم في يوم الثلاثاء رابع عشرينه خلع السلطان على الأمير تنبك البردبكي الظاهري المعزول عن حجوبية الحجاب قبل تاريخه باستقراره أمير مجلس عوضًا عن تنم المنتقل إلى إمرة سلاح. ومن الغريب أنه لما ولي إمرة مجلس وطلع إلى القلعة بعد ذلك وجلس في الموكب قعد قاني باي الجاركسي الأمير آخور الكبير فوقه وهذا شيء لم يعهد من أن أمير آخور يجلس فوق أمير مجلس فعذ ذلك من جنون قاني باي وقلة أدبه إذ إن تنبك المذكور في مقام أستاذه لأنه خجداش جاركس وأيضًا أنه كان في الدولة الأشرفية أمير مائة ومقدم ألف وقاني باي جندي بحياصة فما ثم وجه من الوجوه لجلوسه فوقه. وفيه أيضًا عزل السلطان جماعةً كبيرة من الخاصكية البوابين من المؤيدية وولى عوضهم جماعة من حواشيه فزاد ما بالمؤيدية وأخذوا في عمل الركوب فلم يكن لهم طاقة لذلك لقلتهم فلم يجدوا بدًا من مصالحة الأشرفية ليكونوا معًا فسعوا في ذلك في الباطن إلى ما يأتي ذكره. ثم في يوم الأربعاء خامس عشرينه وصل إلى القاهرة مملوك الأمير قاني باي الحمزاوي نائب حلب ومملوك نائب قلعتها وحاجبها وقبلوا الأرض وأخبر مملوك نائب حلب عن مخدومه أنه قبل الأرض وسر بسلطنة الملك المنصور إلى الغاية فرحب السلطان بهم وخلع عليهم. ثم في يوم الخميس سادس عشرين صفر قرىء تقليد السلطان الملك المنصور بالسلطنة بالقصر الكبير السلطاني من قلعة الجبل فجلس السلطان على كرسي الملك وجلس الخليفة القائم بأمر الله حمزة على الأرض على يمينه فعظم ذلك على الخليفة ولم يبده إلا بعد ركوب الأتابك إينال. وحضر القضاة الأربعة وتولى قراءة التقليد القاضي محب الدين بن الأشقر كاتب السر. وبعد فراغ القراءة خلع السلطان الملك المنصور على الخليفة وعلى كاتب السر وخلع على القضاة الأربعة. ثم في يوم السبت ثامن عشرين صفر خلع السلطان على قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الشافعي بإعادته إلى قضاء القضاة بعد عزل شرف الدين يحيى المناوي. وفيه استقر السيفي يشبك القرمي الظاهري والي القاهرة بحكم عزل جانبك اليشبكي بحكم انتقاله إلى الزردكاشية حسبما تقدم ذكره. هذا وقد أخذت المؤيدية في استمالة الأشرفية من يوم قبض الملك المنصور على خجداشيتهم دولات باي ورفقته ولا زالوا بهم حتى وافقوهم لحزازة كانت في نفوس الأشرفية أيضًا من الملك الظاهر جقمق قديمًا. وقد تجمد مع ذلك أيضًا قول بعض أمراء الظاهرية للأشرفية في أخذ ابن أستاذهم الشهابي أحمد ابن الملك الأشرف برسباي من عند عمه زوج أمه الأمير قرقماس الأشرفي وإرساله إلى ثغر الإسكندرية ليقيم بها عند أخيه الملك العزيز يوسف فعظم ذلك على أم الشهابي أحمد وعلى زوجها الأمير قرقماس فكان ذلك من أكبر الأسباب لموافقة الأشرفية للمؤيدية. ثم ساعدهم أيضًا من له غرض في تغيير الدول لا رغبةً في أحد بعينه بل حتى يناله ما قد أمل وقد صار ذلك عادة عند موت كل سلطان من عهد الملك المؤيد شيخ إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة لعدم أهلية الملوك ولغفلتهم عن هذا المعنى في أيام عزهم وأعجب من هذا أن أحدهم لا يزال في غفلة عن ذلك حتى يشرف على الموت فيعهد لولده بالسلطنة مع معرفته وتحققه بما يفعلونه مع ولده من بعده كما فعل بأمثاله. وقد قيل في المثل: " إذا أردت أن تنظر الدنيا بعدك انظرها بعد غيرك " فلما انتظم الصلح بين الطائفتين سرًا تحالفوا واتفقوا على الركوب في يوم بعينه. كل ذلك والمنصور ومماليك أبيه وحواشيه في غفلة عن ذلك وأكبر همهم في تفرقة الإقطاعات والوظائف وفي ظنهم أن دولتهم تدوم وأن الملك قد صار بيدهم. هذا مع عدم التفاتهم لتقريب العقلاء ومشاورة ذوي التدبير وأرباب التجارب ممن مارس تغيير الدول والحروب والوقائع وصار أحدهم إذا لوح له بعض أصحابه بشيء مما يدل على ذلك يستخف عقله ويهزأ به حتى لقد بلغني من بعض أصحابنا الثقات أنه قال للأمير تمربغا مشافهة. " بلغني أن الأشرفية في عزم الركوب على السلطان " فضحك تمربغا وقال: " هم نقطوا بعقلهم " ازدراء بأمرهم واستخفافًا بشأنهم وليس هذا من شأن من قد صار أمور المملكة بيده فى سائر أحوالها وإنما شأن الذي يكون في هذه الرتبة أن يفحص دائمًا عن أخبار أصدقائه وأعدائه ولا يكذب مخبرًا ولا ينهر منذرًا بل يسمع كلام كل ناصح نصحه فيأخذ ما صلح بباله ويترك ما لم يعجبه من غير أن يفهم عنه لأحد من نصحائه عدم قبول كلامه بل يشكره على ذلك ويثني عليه ويحرضه على ما هو فيه وبصغي لكلام كل قائل حتى يفهمه ثم يفعل ما بدا له هذا مع إلاحتراز والتحري في أموره واستجلاب الخواطر وتأليف القلوب له ولسلطانه ما دامت الدولة مضطربة كما هي عادة أوائل الدول فيصير بذلك في غالب أموره على يقظة فإن كان خيرًا فيحمد الله على التوفيق وإن كان شرًا فيتأهب لذلك قبل وقوعه ثم يلقاه بعد استحكام واستعداد بقوة جنان وبذل النفوس وإلاموال وهيهات بعد ذلك إن تم الأمر أو لم يتم فإن كان النصر فهو من عند الله وإن كانت الآخرى فيكون لما سبق في إلازل فيزول ملكه وهو معذور مشكور لا ندمان مقهور فأين هذا مما كان فيه هؤلاء القوم وقد صار الناس عند الأمير الكبير إينال ولبسوا السلاح وأجمعوا على قتالهم وهم إلى الآن في تكذيب الأخبار واستبعاد ما سيكون فمن أساء لا يستوحش والمفرط أولى بالخسارة وعدم التدبير هو أصل التدمير وهو كما قيل: السريع ما يفعل إلاعداء في جاهل مايفعل الجاهل في نفسه وبات الملك المنصور وأمراؤه في ليلة الاثنين مستهل شهر ربيع الأول على تفرقة النفقة على المماليك السلطانية في غده وقد انبرم أمر القوم وتجهزوا لما عساه يكون. وأهل شهر ربيع الأول يوم الاثنين وفيه كان ابتداء الوقعة بين السلطان الملك المنصور عثمان وبين الأتابك إينال العلائي حسبما نذكره هنا على سبيل إلاختصار وقد حررنا ذلك في تاريخنا " حوادث الدهور " باستيعاب. فلما كان وقت السحر من يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول من سنة سبع وخمسين وثمانمائة ركب جماعة كبيرة من أعيان المماليك الأشرفية ورافقهم جمع كبير من المؤيدية والسيفية وغيرهم من غير لبس سلاح ووقفوا بالرميلة من تحت القلعة لمنع الأمراء من طلوع الخدمة. وكان بالصدف بات تلك الليلة جميع الأمراء في بيوتهم لكون السلطان كان في أمسه لم يتوجه إلى القصر وأمر بعمل الخدمة من الغد بالحوش السلطاني ليبدأ بنفقة المماليك في اليوم المذكور. فلم يكن إلا ساعة يسيرة من وقوفهم وقدم الأمراء جميعًا إلى الرميلة يريدون طلوع القلعة فتكاثرت المماليك عليهم واحتاطوا بهم وأخذوهم غصبًا بأجمعهم وعادوا بهم إلى بيت الأمير الكبير إينال العلائي وهو من جملتهم وكان سكنه بالدار التي على بركة النيل الملاصقة لقصر بكتمر الساقي تجاه الكبش. وأخذوا من جملة الأمراء الأمير قراجا الخازندار الظاهري وقد صار من جملة أمراء مقدمي الألوف وهو أحد أركان مملكة الملك المنصور عثمان وأخذوا معه أيضًا من الظاهرية الوزير تغري بردي القلاوي الظاهري وبرد بك البجمقدار الأمير آخور الثالث. وفات المماليك من أعيان الأمراء الأمير تنم من عبد الرزاق أمير سلاح فإنه قد أحس بالأمر في أمسه فلم يحسن بباله إلا موافقة السلطان لأمر يريده الله عز وجل فركب سحرًا وقصد القلعة ووافاه إلامي تمربغا الظاهري الدوادار الكبير في طريقه فطلعا معًا إلى الملك المنصور. واجتمع المماليك ومعهم الأمراء في بيت الأمير الكبير وقد كثر جمعهم وتزايد عددهم وهم بغير سلاح وصار جميع الأمراء معهم في صفة الترسيم ولم يبق عند الملك المنصور من أعيان الأمراء غير الأمير تنم أمير سلاح والأمير قاني باي الجاركسي الأمير آخور الكبير والأمير تمربغا الدوادار الكبير الظاهري والأمير جانبك الأستادار وكان أيضًا من أمراء الظاهرية بالقلعة برد بك البجمقدار فهؤلاء مقدمو الألوف وإن كان تمربغا إقطاعه طبلخاناه فمنزلته وكذلك جانبك الظاهري. وكان عند الملك المنصور من الأمراء غير مماليك أبيه جماعة منهم يونس العلائي الناصري نائب قلعة الجبل وكزل السودوني المعلم ومغلباي الشهابي أحد أمراء العشرات وقطي الدوكاري نائب البحيرة وعبد الله كاشف الشرقية ومن مماليك أبيه الأمير لاجين شاد الشراب خاناه وأسنباي الجمالي الدوادار الثاني وأزبك من ططخ الخازندار الكبير وهو صهر الملك المنصور و زوج أخته و سنقر العايق الأمير آخور الثاني وسنقر أستادار الصحبة وجماعة أخر تأمروا في الدولة المنصورية لا يعتد بهم كونهم إلى الآن صفة الخاصكية فهؤلاء هم الأمراء. وأما من كان عنده من مماليك أبيه الخاصكية والجمدارية وغيرهم فكثير جدًا. على أنه كان بالقلعة جماعة كثيرة غير الظاهرية الجقمقية من الظاهرية البرقوقية والناصرية والمؤيدية والأشرفية والسيفية. وأما من كان مع المماليك من أعيان الأمراء ببيت الأمير الكبير من المقدمين الأمير الكبير إينال وتنبك أمير مجلس وأسنبغا الطياري رأس نوبة النوب وخشقدم المؤيدي حاجب الحجاب وطوخ من تمراز الناصري وجرباش المحمدي الناصري كرد ويونس إلاقبائي وقرقماس الأشرفي الجلب. وأما من أمراء الطبلخانات والعشرات فكثير ذكرناهم في غير هذا المحل يطول الشرح في ذكرهم. ولما اجتمع القوم في بيت الأمير الكبير وعظم جمعهم أتاهم الأمراء والخاصكية والأعيان من كل فج حتى بقوا في جمع موفور فأعلنوا عند ذلك بالخروج عن طاعة الملك المنصور والدخول في طاعة الأمير الكبير إينال والأمير الكبير يمتنع من ذلك بلسانه فلم يلتفتوا لتمنعه. وأخفوا في لبس السلاح فلبسوا في الحال عن آخرهم. وطلبوا الخليفة القائم بأمر الله حمزة فحضر قبل تمام لبسهم السلاح واحتفظوا بالأمير قراجا الظاهري وتغري بردي القلاوي وبردبك البجمقدار كونهم ظاهرية جقمقية. ولما حضر الخليفة أظهر الميل الكلي للأتابك إينال وأظهر كوامن كانت عنده من الملك المنصور وحواشيه منها: أن المنصور جلس يوم قرىء تقليده على الكرسي وجلس الخليفة مع القضاة أسفل وأشياء من هذا وقام مع الأمراء في خلع المنصور أتم قيام. كل ذلك والمماليك في احتراز عظيم على جماعة من الأمراء خوفًا من فرارهم إلى الملك المنصور حتى على الأمير الكبير. ولما تكامل لبس المماليك والأمراء السلاح طلبوا من الأمير الكبير الركوب معهم والتوجه إلى بيت قوصون تجاه باب السلسلة فامتنع تمنعًا ليس بذاك ثم أجابهم في الحال وركب هو والأمراء وحولهم العساكر محدقة بهم إلى أن أوصلوهم إلى بيت قوصون المذكور ودخلوه من باب سره الذي بالشارع الأعظم ونزل الأمير الكبير بمن معه من الأمراء بالمقعد من الحوش وجلس الخليفة بالقصر الفوقاني بالبيت المذكور ورسم على قراجا وتغري بردي القلاوي وبردبك بالقصر أيضًا كل ذلك والقوم في غير ثقة من الأمير الكبير وغيره من الأمراء حتى كلم الأمير الكبير بعض أصحابه العقلاء بكلام معناه قول القائل: البسيط إذا وترت إمرًا فاحذرعداوته من يزرع الشوك لايحصد به عنبا إن العدو وإن أبدى فسالمةً إذا رأى منك يومًا فرصة وثبا وأظن القائل له الأمير أرنبغا الناصري أحد أمراء الطبلخانات فإنه كان أمثل القوم وأقواهم بأسًا وأفرطهم شجاعة. وأما الملك المنصور لما بلغه ما وقع من القوم في بيت الأمير الكبير تحقق من عنده من الأمراء والأعيان ركوب الأمير الكبير وخروجه عن الطاعة فأمروا في الحال يشبك القرمي والي القاهرة أن ينادي بطلوع المماليك السلطانية لأخذ النفقة وأن النفقة لكل واحد مائة دينار فنزل يشبك من القلعة والمنادي بين يديه ينادي بذلك إلى أن وصل إلى الرميلة تجاه باب السلسلة فأخذته الدبابيس من المماليك فتمزقوا وذهب القرمي إلى حال سبيله. ثم أمر الملك المنصور لأمرائه وحواشيه بلبس السلاح فلبسوا بأجمعهم ولبس هو أيضًا كل ذلك وآراؤهم مفلوكة وكلمتهم غير منضبطة. وصرت أنا أنظر إليهم من أسفل القلعة فلم أجد عندهم انزعاجًا ولا هرجًا مع جمودة حركاتهم ولم ينزل من القلعة أحد لحفظ المدرسة الحسنية مع معرفتهم أنها مسلطة على القلعة غاية التسليط هذا مع كثرتهم وقوة بأسهم بالقلعة والسلاح وأما الأمير الكبير فإنه حال ما استقر به الجلوس ندب دواداره وصهره بردبك ومعه الأمير سونجبغا اليونسي رأس نوبة ونوكار الناصري أحد أمراء العشرات وثاني حاجب إلى القلعة رسالة إلى الملك المنصور يطلب منه إخماد الفتنة بإرسال جماعة من أمرائه وهم: تمربغا الدوادار الكبير ولاجين شاد الشراب خاناه وأسنباي الدوادار الثاني فطلعوا إلى الملك المنصور وكلموه في ذلك وعادوا إلى الأمير الكبير بأجوبة طويلة مضمونها أنه امتنع من تسليمهم فأرسلهم الأمير الكبير ثانيًا وصحبتهم بردبك دواداره وصهره فتوجهوا إلى القلعة وطلعوا إلى المنصور ثاني مرة و طلبوا منه ما ذكرناه فامتنع وعوق عنده سونجبغا ونوكار وأرسل بردبك بالجواب. وابتدأ القوم في القتال من يوم الاثنين المذكور واشتد الحرب وجرح من الطائفتين جماعة. ثم خرج جماعة من أصحاب الأمير الكبير لأخذ مدرسة السلطان حسن فامتنع من بها من فتح أبوابها فنقبوا حائطًا من جوارها مما يلي حدرة البقر ودخلوا منه إلى المدرسة المذكورة وعمروا سلالم سطحها وطلعوا منه إلى مآذنها ورموا منها بالمدافع على قلعة الجبل. وقوي أمر أصحاب الأمير الكبير بأخذ المدرسة المذكورة إلى الغاية غير أن الأمير الكبير إلى الآن يقدم رجلًا ويؤخر أخرى في الخلاف على المنصور ويحسب العواقب وصار يظهر أنه مكره على ذلك فلم يقبل المنصور منه ما أظهره وتحقق كل أحد ما القصد بالركوب. ثم نزل الملك المنصور من القصر السلطاني بأمرائه وعسكره إلى الإسطبل السلطاني وجلس بالمقعد المطل على الرميلة ونزل من عساكره جماعة مشاة من باب السلسلة إلى الرميلة لقلة وجود الخيل بالقلعة فإنه كان أيام الربيع والخيول غالبها مربوطة على القرط بالبر الغربي من الجيزة حتى إنه كان جميع ما بالقلعة من الخيول أقل من مائة فرس ومنعوا من إحضار خيولهم التي بالربيع و عز توصلهم إليها وقاتلوا القوم وهم مشاة غير مرة. وصار أمر الأمير الكبير في نمو بمن يأتيه من المماليك السلطانية وجميعهم فرسان غير مشاة فإنه صار كل واحد منهم يرسل غلامه فيأتيه بفرسه من مربطه بالربيع بخلاف القلعيين فإنهم ممنودون من ذلك من حجر أصحاب الأمير الكبير عليهم لهذا السبب وغيره. ولما رأى الملك المنصور أمر الأمير الكبير في زيادة أراد النزول إليه بعساكره في الحال من أول وهلة فمنعه قاني باي الجاركسي من ذلك بسوء تدبيره لأمر سبق وكان في نزوله غاية المصلحة من وجوه عديدة. ومضى نهار الاثنين بعد قتال كبير وقع فيه وبات الفريقان في ليلة الثلاثاء على أهبة القتال وأصبحا يوم الثلاثاء على ما هم عليه من القتال والرمي بالمدافع والنفوط والسهام من الجهتين والجراحات فاشية في الفريقين إلا أن فيمن هو أسفل أكثر غير أنه لا يؤثر فيهم لكثرتهم. ولم يكن وقت الزوال حتى كثر عسكر الأمير الكبير إينال بمن يأتيه أرسإلا من المماليك السلطانية واستفحل أمره لا سيما لما نزل الأمير جانبك الظاهري أستادار العالية إليه داخلًا في طاعته ومعه خجداشه الأمير بردبك البجمقدار أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وسر الأمير الكبير بنزوله إلى الغاية. وكان لنزول جانبك المذكور من القلعة أسباب خفية. ثم في هذا اليوم لهج الخليفة أمير المؤمنين القائم بأمر الله حمزة بخلع الملك المنصور عثمان من الملك غير مرة في الملأ فقوي بذلك قلب أصحاب الأمير الكبير وجدوا في القتال وتفرقوا على جهات القلعة وجدوا في حصارها و منعوا من يطلع إليها بالميرة وغيرها. وخف الترسيم عن جماعة من الأمراء من أصحاب الأمير الكبير ممن كانت المماليك تخاف من ذهابهم إلى الملك المنصور وكانوا قبل ذلك يحتفظون بهم بطريق التحشم: وهو أن الأمير منهم كان إذا ركب للقتال أو غيره دار حوله جماعة من المماليك الأشرفية وغيرهم وساروا معه حيث سار كأنهم في خدمته حتى يعود إلى مكانه فمن آخر يوم الثلاثاء هذا ومن صبيحة يوم الأربعاء تركوا ذلك لعلمهم أن جميع الأمراء والعساكر صاروا في طاعة الأمير الكبير. وشرع الجميع في القتال بمماليكهم وحواشيهم وفي عمل التدبير في أخذ الملك المنصور وخلعه من السلطنة وباتوا تلك الليلة على ما هم عليه. وأصبحوا يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول والقتال عمال وأصحاب الملك المنصور تنسل منه إلى الأمير الكبير واحدًا بعد واحد ومن بقي منهم عند الملك المنصور لا يلتفت إلى من ذهب بل هو على ما هو عليه من القتال لكثرة عددهم وللقيام بنصرة ابن أستاذهم فكان في يوم الأربعاء هذا وقعات بين الطائفتين بالمناوشات لا بالمقابلة وباتوا على ذلك. فلما كان يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول أرسل الملك المنصور إلى الأمير الكبير بالأمير سونجبغا والأمير نوكار والزيني عبد الرحمن بن الكويز وشهاب الدين الإمام إلاخميمي ومعهم منديل الأمان للأمير الكبير ومن معه من الأمراء ليطلعوا إلى طاعة السلطان. وترددوا بين الملك المنصور والأتابك إينال غير مرة في عمل الصلح وكثر الكلام بينهم إلى أن انفض المجلس على غير طائل ولم ينبرم صلح ومنع الأمير الكبير سونجبغا ونوكار من الطلوع إلى القلعة وعاد إلاخميمي بالجواب إلى السلطان. وفي الحال عاد القتال على ما كان عليه فإنه كان بطل الرمي من القلعة ومن المدرسة لعمل الصلح فلما انفض الأمر على غير صلح عاد كل أحد من الطائفتين إلى ما كان بصدده. وأعلن الخليفة في هذا اليوم أيضًا بين الملأ بخلع الملك المنصور من السلطنة وسلطنة الأتابك إينال والأتابك إينال يمتنع من ذلك في ذلك الوقت حتى ينظر ما يكون من أمر الملك المنصور ومحاصرته. ثم تكلم الخليفة في ذات اليوم أيضًا بين الناس بأعلى كلامه: " قد خلعت الملك المنصور من الملك ". هذا وقد ضعف أمر الملك المنصور واستفحل أمر الأتابك إينال غير أن الرمي من القلعة بالمدافع وغيرها مستمر وهلك من ذلك جماعة كبيرة من عساكر الأمير الكبير ومن الأجناد والعامة والمتفرجين.
|